كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وثانيهما: أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطبت به الظلمة من كل جانب.
قالوا: والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور. وأيضا إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات. قلت: والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار، والملكات والعادات الذميمة ظلمات، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا} [الحديد: 13] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس هاهنا منزلة بين المنزلتين، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين: مبيض الوجوه وهم المؤمنون، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه، وأيضا لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم. وأيضا المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق. والواب لم لا يجوز أن يكون لامراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم، فيكون الخطاب لجميع الكفار؟ وأنه أيضا جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث أنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان. فإن قيل: لم قدم البياض على السواد أوّلًا وعكس آخرًا؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بها أيضا تنبيهًا على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال: «سبقت رحمتي غضبي» ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة. ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟ قال أبي بن كعب: هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد أكفرتم بعدما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج: إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به بعد بعثه. وقال قتادة: إنهم المرتدون. وقال الحسن: هم المنافقون. وقيل: هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ولما رأى أبو أمامة رؤوسًا منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عنياه ثم قال: كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم أسمعه، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثًا حتى عد سبعًا ما حدثتكموه.
قال: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم. كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية. ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرًا فأعاذ الله منهم. هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعة. ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة، والاستفهام في قوله تعالى: {أكفرتم} بمعنى الإنكار. قال القاضي: وفيه وكذا في قوله: {ما كنتم تكفرون} دليل على أن الكفر منهم لا من الله. وقالت المرجئة: فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكفار. أما قوله: {ففي رحمة الله} فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة. وموقع قوله: {هم فيها خالدون} موقع الاستئناف كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون. وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته. وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتلعيل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضا دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب، وكيف لا وقد أردفه بقوله: {تلك} الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها {آيات الله نتلوها عليك} متلبسة {بالحق} العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته، أو ملتبسه بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق {وما الله يريد ظلما للعالمين} ولكن مصالح الخلق لا نتتظم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل التهديد فلابد من التحقيق دفعًا للكذب عمن هو أصدق القائلين. قال الجبائي: قوله: {ظلمًا} نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئًا مما يكون ظلمًا سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلًا لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريدًا له هذا خلف، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد، إذ من جملتها القبائح، وقد بينا أنه لا يريدها. ثم أنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدًا له، فدلت الآية على أنه قادر عل الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال: {ولله ما في السموات وما في الأرض} وأيضا لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة. وكل ذلك على الله تعالى محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض بل لكل ما في الوجود.
وربما يقال: معنى الآية إما أن يكون أنه لا يريد أن يظلمهم، أو أنه لا يريد أن يظلم بعضهم بعضًا. والأول لا يستقيم على على مذهبكم لأن من مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء من الذنب أشد العذاب لم يكن ظالمًا بل كان عادلًا لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه، فتصور الظلم منه محال عندكم، فلا يلزم منه مدح. والثاني أيضا محال على قولكم لأن كلًا بإرادة الله وتبكوينه عندكم، فثبت أنه لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح في مذهبكم. أجاب أهل السنة من وجهين: الأول أنه يتوقف المتدح بنفي صفة على إمكان تصور ذلك الشيء منه بدليل قوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] {وهو يطعم ولا يطعم} [الأنعام: 14] ولا يتوقف التمدح بذلك على صحة النوم والأكل عليه. الثاني أنه تعالى إن عذب من ليس بمستحق للظلم لم يكن ظالمًا لكنه في صورة الظلم. وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] والحق في هذا المقام أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وإذا كان اللطف والقهر من ضرورات صفات الكمال، فوضع كل منهما في مظهره يكون وضع الشيء في موضعه فلا يكون ظلمًا. واحتجت الأشاعرة بقوله: {ولله ما في السموات وما في الأرض} على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها من جملة ما في السموات وما في الأرض. أجابت المعتزلة بأن قوله: {لله} إضافة ملك لا إضافة فعل كما يقال: هذا البناء لفلان. يراد أنه مملوكه لا أنه مفعوله. وأيضا الآية مسوقة في معرض المدح ولا مدح في نسبة الفواحش والقبائح إلى نفسه. وأيضا قوله: {ما في السموات وما في الأرض} يتناول ما كان مظروفًا لهما وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض، والداعية المنتهية إلى تخليق الله دفعًا للتسلسل أو لترجيح من غير مرجح، قالت الحكماء: تقديم السموات في الذكر على الأرض دليل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأسباب السموية، ولا شك أن الأحوال السموية مستندة إلى خلقه وتكوينه تعالى فيكون الجبر أيضا لازمًا من هذا الوجه.
{وإلى الله} أي إلى حيث لا مالك سواه {ترجع الأمور} فالأول إشارة إلى أنه تعالى مبدأ المخلوقات كلها، وهذا إشارة إلى أن معاد الكل إليه.
قوله عز من قائل: {كنتم خير أمة} في النظم وجهان: أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى، عدل إلى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعتيهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية، وذلك إنما يكون بالتزام التكاليف الشرعية، وثانيهما أنه لما ذكر حال الاشقياء وحال السعداء نبه أوّلًا على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله: {وما الله يريد ظلمًا للعالمين} بمعنى أنهم استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة.
ثم نبه على سبب وعد السعداء بقوله: {كنتم خير أمة} أي تلك الكرامات والسعادات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خير أمة، وأقول: لما انجز الكلام في مخاطبة المؤمنين الى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعًا واختراعًا وأن منتهى الكل إليه، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطفا، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه.
عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه، ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله هذه الآية. قال بعض المفسرين: كأن هاهنا تامة، وانتصاب {خير أمة} على الحال حدثتم ووجدتم خير أمة. والأكثرون على أنها ناقصة، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل. فأجيب بأن كان. لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله: {وكان الله غفورًا رحيمًا} [النساء: 96] وقيل: المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله: {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} [الفتح: 29] وقال أبو مسلم: هذا تابع لقوله: {وأما الذين ابيضت وجوههم} وما بينهما اعتراض والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم. وقال بعضهم: لو شاء الله لقال: أنتم. فكان هذا التشريف حاصلًا لكلنا، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم. وقيل: إنها زائدة والمعنى: أنتم خير أمة. وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب.
عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان ولا يقولون: كان عبد الله قائم على أن كأن زائدة. لأن البداءة بها دليل شدة العناية، والملغى لا يكون في محل العناية. وقيل: إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة. وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته. وإذا أطقلت الأمة في نحو قول العلماء اجتمعت الأمة وقعت عليهم. وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد.
قال الزجاج: ظاهر الخطاب في {كنتم} مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق لكل الأمة. ونظيره {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 178] {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 183] وقوله: {للناس} إما أن يتعلق بـ {أخرجت} والمعنى: كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار. ومعنى إخراجها أنها أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها. وإما أن يتعلق بـ {كنتم} أي كنتم للناس خير أمة. ثم بين سبب الخيرية على سبيل الاستئناف بقوله: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. وقد يستدل بالآية على أن إجماع هذه الأمة حجة لأنها لو لم تحكم بالحق لم تكن خيرًا من المبطل، ولأن اللام في {المعروف} وفي {المنكر} للاستغراق فيقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر فيكون إجماعهم حقًا وأما أنه من أي وجه يقتضي ذلك كون هذه الأمة خير الأمم مع أن الصفات الثلاثة كانت حاصلة لسائر الأمم فذلك أن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل. وأعرف والمعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فكان الجهاد في الدين تحملًا لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار، فكان من أعظم العبادات. ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» فلا جرم صار لك موجبًا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله: {كنتم خير أمة} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر.
وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرهًا إلى أن يألفه متدرجًا. وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول الله أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانأ، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله: {ولو آمن أهل الكتاب} وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم.
وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دن العكس، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريرًا له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب، وأيضا أراد أن يبني عليه قوله: {ولو آمن} وفي التفسير الكبير: إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل. ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك، ولهذا قال تعالى: {ولو آمن أهل الكتاب} يعني إيمانًا متعتبرًا وهو الإيمان بالله وبسائر ما لابد منه من الأمور المعدودة {كان خيرا لهم} لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الأمة، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا، وبعد ذلك خلود في النار، ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال: {منهم المؤمنون} كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه، فاللام للمعهود السابق {وأكثرهم الفاسقون} الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضا فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم، فلا ينبغي أن يقتدى بهم ألبتة. ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي {لن يضروكم إلا أذى} الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيرًا والمسيح. والأذى مصدر كالأسى يقال: يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والأذى نوع من الضر فصح انصابه به والتقدير: لن يضروكم شيئًا من أنواع الضرر إلا ضررًا يسيرًا. ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن {وإن قاتلوكم بولوكم الأدبار} منهزمين {ثم لا ينصرون} وإنما لم يجزم بالعطف على {يولوكم} لئلا يصير نفي النصر مقيدًا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعدًا مطلقًا، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتفٍ عنهم رأسًا فلن يستقيم لهم أمر ألبتة.
ومعنى ثم إفادة التراخي في الرتبة لأن الأخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الأخبار بأنهزامهم عند القتال. فإن قيل: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوى وشوكة في ديارهم. قلنا: هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على ذلك، فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر، أو لعل نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة. وفي الآية تشجيع للمؤمن وتثبيت لمن آمن من أهل التكاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم. اهـ.